فالسياسة من دون اخلاق وهم او نقص وهي تنعكس على نفسية المواطن وتجعله يعيش ضائعا متخبطا، يرفض ويعارض كل شيء.. ويصبح السياسي عنده مكروها ومرفوضاً..

إذا كانت السياسة في تعريفها البسيط هي طرائق قيادة الجماعة البشرية وأساليب تدبير شؤونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هي مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو ما يعتقد أيضا أنه خير وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر.

وكلتاهما -السياسة والأخلاق- تستهدفان تمليك الناس رؤية مسبّقة تجعل لحياتهم هدفا ومعنى، وبالتالي تلتقيان على الدعوة لبناء نمط معين من المبادئ والعلاقات الإنسانية والذود عنهما، لكن تفترقان في أن طابع المبادئ والعلاقات التي تعالجها السياسة تختلف نوعيا عن تلك التي تتناولها الأخلاق تصل إلى حد التعارض عند ميكافيلي الذي يغلّب السياسة على الأخلاق في كتابه "الأمير"، ليظهر السلوك الميكافيلي كما لو أنه يتنكر صراحة لجميع الفضائل الأخلاقية حين يبرر استعمال كل الوسائل لتحقيق الغايات السياسية!!

لا يقصد إذا بالأخلاق في ميدان السياسة حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة، على أهمية هذه القيم وضرورتها في العمل السياسي النظيف، بل أساسا تلك العلاقة الشائكة والمعقدة بين الهدف السياسي والوسائل المفضية إليه، أو بمعنى آخر ماهية التحديات والمعايير الأخلاقية التي تعترض أصحاب غاية سياسية عند اختيارهم وسيلة نضال ورفض أخرى، أتستند هذه المعايير إلى محتوى الغاية أم إلى طابع الأساليب أم إلى القيم الإنسانية العامة؟! وما صحة القول إن عدالة أي هدف تبيح عند أصحابه استخدام ما يحلو لهم من وسائل حتى لو داسوا بأغلظ الأقدام على خير ما راكمته البشرية من قيم ومثل ؟!

السياسة الأخلاقية: فن ممكن!

هل السياسة إذاً ممارسة منفصلة عن الأخلاق بالضرورة؟ وهل يجب أن يخوض السياسي غمار اللعبة السياسية عاملاً بقواعد " فن الممكن" و " الغاية تبرر الوسيلة" و" اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس"؟ هل السياسي الناجح هو ذلك الذي تخيله ميكافيلي (Micavilli): يتغنى بالفضيلة ما دامت تخدم أهدافه، ويلجأ إلى الظلم والغدر والقسوة لتحقيق ما يصبو إليه من نجاح ونفوذ، ويستخدم الدين وسيلة لتلميع صورته وزيادة شعبيته؟



هل السياسة دهاليز وكواليس ومؤامرات واغتيالات وعمليات سرية وخدع متوحشة؟ لا ريب أن هذه كلها حقائق تملأ السمع والبصر، لكنها ليست قدراً نافذاً ولا ضربة لازب. بوسع السياسي أن يكون صادقاً، نظيف الوسيلة، عف اللسان، منصفاً حتى لخصومه، لا تستبد به الذاتية وعشق الأضواء، ولا يعارض لمجرد المعارضة، بل ينطلق من البحث عن مصلحة الجمهور ورفاهيته.

ولا تتعارض هذه المبادئ بالضرورة مع بعض أساليب الدهاء السياسي كالتورية والتعريض والمفاجأة والكتمان والمناورة اللفظية. لقد علّمنا الإسلام قواعد جميلة في السلوك السياسي، ويحفل القرآن الكريم بالآيات التي تحث على العدل التبين والستر وتطهير القول والعمل بالإخلاص والصدق. كقوله تعالى( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين )، ( ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا) ، و ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا) ، و( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ، و (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون، كبير مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ) ، و( وكونوا مع الصادقين).

وفي الحديث: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان". و " الظلم ظلمات "و " سباب المسلم فسوف"، و"من غشنا فليس منا"، " واستعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان"و"الحرب خدعة" و " إن المعاريض مندوحة عن الكذب).

يشير الماوردي في كتابه ( درر السلوك في سياسية الملوك) إلى ضرورة أن يهتم السياسي بالصدق في مقاله، وألا يرخص لنفسه في الكذب إلا على وجه التورية في خداع الحروب " فإن أرخص لنفسه فيه على غير هذا الوجه، صار به موسوماً، لأن الإنسان بقدر ما يسبق إليه يعرف. وبما يظهر من أخلاقه يوصف، وبذلك جرت عادة الخلق : أنهم يُعدلون العادل بالغالب من أفعاله، وربما أساء، ويفسقون الفاسق بالغالب من أفعاله، وربما أحسن". ويستشهد الماوردي بما كتبه أبو بكر الصديق إلى عكرمة بن أبي جهل عامله بعُمان: إياك أن توعد على قضيتين بأكثر من عقوبتهما، فإنك إن فعلت أثمت، وإن تركت كذبت(7).

ويحذر الماوردي من تسخير المهارات الخطابية لأغراض حزبية أو عصبية أو مذهبية منتقداً أولئك الذين " يزوقون كلاماً مموهاً، ويزخرفون مذهباً مشوهاً، ويخلبون به قلوب الأغمار، ويعتضدون على نصرته بالسفلة الأشرار، فيصب الناس إليهم وينعطفوا عليهم، بخلابة كلامهم، وحسن ألطافهم..." ويستشهد بالحديث: " إن أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان"(8).

أما ابن الأزرق فيؤكد في كتابه ( بدائع السلك في طبائع الملك) أن "تنزيه مقام السلطان عن إخلاف الوعد من أوجب ما يطالب به" ويسوق هاتين الحادثتين عن إنجاز الوعد:

الأولى : لما ولي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - جاءه المال من العمال، فأمر منادياً ينادي: من كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين أو عدة فليحضر. قال أبو أيوب الأنصاري: يا خليفة رسول الله إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: لو جاءني مال، أعطيتك هكذا، وأشار بكفيه، فسكت أبو بكر، فانصرفت، ثم عاودت فقلت: إما أن تعطيني وإما إن تبخل عني، فقال: ما أبخل عنك: اذهب فخذ، فذهبت، فأخذت حفنة، فقال عدها، فعددتها، فوجدت فيها خمسمائة دينار، فقال عد مثلها، فانصرفت بألف وخمسمائة دينار.

الثانية: في الوقت الذي كان الأعاجم يحاصرون فيه القيروان قال عمر بن الخطاب لجرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنهما -: سر إلى قومك، فما غلبت عليه فلك ربعه، فلما جمعت غنائم جلولاء ادعى جرير أن له ربع ذلك كله، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر - رضي الله عنهما - فرد عمر: صدق جرير، قد قلت ذلك كله، فإن شاء أن يقول: قاتل هو وقومه على جعل، فأعطوه جعله، وإن يكن إنما قاتل لله ولدينه وحسبه، فهو رجل من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، فلما قدم الكتاب على سعد أخبر بذلك جريراً فقال: صدق أمير المؤمنين لا حاجة لي به، بل أنا رجل من المسلمين(9).

ويشير ابن الأزرق أيضاً إلى وجوب التزام السياسي بالصدق " لما في الكذب من المفاسد المخلة، لمصالح الدين والدنيا"، كما أن " خراب البلاد وفساد العباد مقرون بإبطال الوعد والوعيد من الملوك" . ويروي عن ابن العربي قوله: " إن الإمام الكذاب شر الخلق عند الله تعالى؛ لأن الكذاب إنما يكذب حيلة لما يعجز عنه، وليس فوق الإمام يد، ولا دونه شيء مما يعتاد دركه، فإذا صادره بالكذب نزل عن الكرامة إلى الخسة وعن الطاعة إلى المعصية"(10).

ويرى أبو بكر المرادي أن السياسي الناجح هو ذلك الذي يتصف بالدهاء، فيسعى إلى تحقيق أهدافه بألطف الوجوه ويبدو " كأنه أبله، وهو متباله، يحصي دقائق الأمور، ويدبر لطيفات الحيل، فلا ينطق حتى يجد جواباً مسكتاً أو خطاباً معجزاً، ولا يفعل حتى يرى فرصة حاضرة، ومضرة غائبة، فعدوه مغتر بعدواته، ومقدر عليه الغفلة والبله بغوايته، وهو مثل النار الكامنة في الرماد، والصوارم المكنونة في الأغماد. وقد قال عمر رضي الله عنه " لن يقيم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة، بعيد الغور، لا يطّلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم"(11).

ومن أبرز ملامح الدهاء السياسي – في نظر ابن الأزرق- التغافل، فالسياسي الحاذق هو الذي يهتدي بقوله تعالى : (عرّف بعضه وأعرض عن بعض) ويأخذ بقول العرب: " الشرف التغافل" و"ما استقصى كريم حقه قط" . كما أن الحس الإسلامي النبيل يقتضي" ترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب.. والصفح عن التوبيخ، وإكرام الكريم، والبشر في اللقاء، ورد التحية، والتغافل عن خطأ الجاهل. من شدد نفر، ومن تراخى تألف"(12).

إذاً للاتصال السياسي أن يتعلم الكثير من الإسلام. هذا ليس حديثاً رومانسياً ولا خطاباً مؤدلجاً كما يقال. يجب ألا يعتبر التشديد على أهمية المعايير الأخلاقية والإنسانية للعمل السياسي ضرباً من السذاجة أو تغريداً خارج السرب.

ولا ننسى أنه في غمرة الممارسات السياسية الوحشية لبعض الدول تظهر أصوات مسؤولة تندد بهذه الممارسات وتدعو إلى وقفها، وربما يستقيل أشخاص مهمون احتجاجاً على سياسيات لم تستطع ضمائرهم تحملها (استقال عدد من مسؤولي التفتيش على الأسلحة العراقية بعد تأكدهم أن الذي يحدث ليس نزع سلاح بل نزع أرواح وأن التذرع بالتفتيش ما هو إلا مبرر لإدامة الحصار الذي فاق سني يوسف وسني شعب أبي طالب، كما استقال عدد من المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية إبان حرب الإبادة في البوسنة مثل جورج كيني المسؤول السابق لشؤون يوغسلافيا الذي فضح التواطؤ الأمريكي مع مشروع الإبادة)(13).

هل السياسة الأخلاقية إذاً فن ممكن. أم أن حديث الأخلاق يبدو نشازاً في عالم يتحكم فيه حديث القوة والمصلحة فقط ؟

لما سئلت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت عن العقوبات المفروضة على العراق وقيل لها إن أكثر من نصف مليون طفل عراقي قضوا نحبهم بسبب تلك العقوبات أجابت: its worth it (الأمر يستاهل).

بالطبع لا معنى لحديث الأخلاق هنا، إذ لا يمكن تصور أن هناك بعداً أخلاقياً لقتل الأطفال.